بسم الله الرحمن الرحيم
أحبائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسمحوا لي أن أطرح عليكم نقلاً من قراءاتي
هذا البحث والذي هوبعنوان :
الإعجاز العلمي في النهي عن الغضب
ولطول الموضوع سوف أقوم بتقسيمه إلى جزئين
مقدمة
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من أخبرنا بما كان وما هو آت:
وبعد:
فإن الغضب حالة شائعة بين الناس وهو بينهم لا يكاد يجهله أحد ولكنه مبغوض ومساوئه أكثر من محامده لأنه داء وليس بدواء في أكثر الأحايين وكما قيل: «فإن الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة قلَّ ما يتمكن منه إلا اغتاله, والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات ، ويخلق للبريء جنايات»(1).
قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: «ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب, وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز»(2).
«والغضب يترتب عليه تغير الباطن والظاهر، كتغير اللون والرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال على غير ترتيب، واستحالة الخلقة، حتى لو رأى الغضبان نفسه في حالة غضبه، لسكن غضبه؛ حياءً من قبح صورته، واستحالة خلقته، هذا في الظاهر، وأما في الباطن فقبحه أشد من الظاهر؛ لأنه يولد حقداً في القلب، وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل قبح باطنه، متقدم على تغير ظاهره، فإن تغير الظاهر ثمرة تغير الباطن، فيظهر على اللسان الفحش والشتم، ويظهر في الأفعال بالضرب والقتل، وغير ذلك من المفاسد» (3) .
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بالنهي عن هذه الآفة، وبيان آثارها، بل بين الوسائل والعلاجات التي يستعين بها الإنسان على التخفيف من حدة الغضب، وتجنب غوائله.
والغضب كما سيأتي تعريفه حالة من التوتر تنتاب الإنسان، يختلف في قوته من إنسان لآخر، سأتناوله بشيء من التفصيل من جهة ما ورد في شرعنا في أسباب حصوله وكيفية معالجته، وأيضا فإني سأذكر ما توصل إليه العلم الحديث من كيفية معالجته للوصول بالقارئ إلى وجه الإعجاز الناشئ من التطابق الكبير بين ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أربعة عشر قرناً وبين ما توصل إليه أرباب العلم التجريببي، ومن هنا فسيكون البحث مقسماً على النحو التالي:
- تعريف الغضب.
- النصوص الواردة في ذم الغضب.
- أنواعه وأسبابه ودرجاته.
- النصوص الواردة في علاج الغضب من خلال الهدي النبوي.
- آثار الغضب على الجسم من منظور علمي.
- الغضب الصريح والغضب المكبوت.
- علاج الغضب في العصر الحديث.
- وجه ا لإعجاز.
تعريف الغضب:
كلمة ( الغضب ) يدرك معناها الصغير ، والكبير بلا تكلف أو تعب فتوضيح الواضحات - كما يقال - من الفاضحات ، وقد يزيده غموضا وإشكالا، إلا أنني هنا أذكر تعريف الغضب متبعا فيها الطريقة المنهجية التي أسير عليها في أبحاثي، حيث عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم ، فاختلفت العبارات ، واتفقت الثمرة، قال المناوي –رحمه الله تعالى –: «والغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور »(4).
و قال القرطبي -رحمه الله تعالى- " والغضب في اللغة: الشدة ، ورجل غضوب أي شديد الخلق ، والغضوب الحية الخبيثة ؛ لشدتها, والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها" (5).
وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى- «والغضب هو غليان دم القلب المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه»(6) , وقيل في معناه: تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر,
وقيل: الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه(7).
النصوص الواردة في ذم الغضب
جاء ذم الغضب صراحة مرة، وضمنا أخرى، وبصيغة الترغيب في ترك الغضب ثالثة، في عدة آيات من القرآن الكريم، وفي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام وفيما يلي ذكر بعض من تلك النصوص:
1. في القرآن الكريم:
قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [الشورى: 37]، وقال تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134].
2. في السنة النبوية المطهرة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(8). قوله ليس الشديد بالصرعة - بضم الصاد وفتح الراء- الذي يصرع الناس كثيراً بقوته والهاء للمبالغة بالصفة، وقال ابن بطَّال في الحديث أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة(9).
وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء"(10).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال: ( لا تغضب ), فردد مرارا قال: ( لا تغضب)(11), قال الخطابي: معنى قوله (لا تغضب) اجتناب أسباب الغضب وألا تتعرض لما يجلبه ، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة, وقال غيره: ما كان من قبيل الطبع الحيواني فلا يمكن دفعه، وما كان من قبيل ما يكتسبه بالرياضة فهو المراد, وقيل: لا يفعل ما يأمرك به الغضب، ولعل السائل كان غضوباً، وكان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر كل أحد بما هو أولى به، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب، فللغضب مفاسد كبيرة ، ومن عرف هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تغضب ) من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء المفاسد(12).
أنواعهوأسبابه ودرجاته:
ولئلاتختلط على القارئ المعاني فيعتقد أن كل الغضب مذموم فيصير بالرياضة والمجاهدة بليدالا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ولا يغضب لما يغضب لمثله العقلاء؛ لا بد إذن من بيانأنواع الغضب قبل بيان وجه الإعجاز فيه، ولذلك قيل أن الغضب محمود ومذموم ومباح ،فالمحمود غير داخل في موضوعنا هذا وأما المذموم والمباح فهو الذي نريد، ولكنللتمييز بينها كان لابد من هذا البيان:
1. الغضب المحمود:وهو الغضب للحقولله، وذلك إذا انتهكت حرمات الله سبحانه. وعلى هذا تُحمل الأحاديث الواردة في غضبهصلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما ورد في الحديث عن عائشة قالت: "ما ضرب رسول اللهصلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل اللهوما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عزوجل"(13).
2. الغضب المذموم: وهو الغضب للنفس والغضب للباطل. وعلى هذا تُحمل الأحاديث الواردة في النهي عن الغضب والتحذير منه.
3. الغضب المباح: وهو الغضب فيغير معصية الله –تعالى- ولم يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد, وكظمه هنا خير وأبقى ،قال ابن حبان –رحمه الله تعالى-: «والخلق مجبولون علىالغضب ، والحلم معا ، فمن غضب وحلم في نفس الغضب فإن ذلك ليس بمذموم ما لم يخرجهغضبه إلى المكروه من القول والفعل على أن مفارقته في الأحوال كلهاأحمد»(14).
وقد ينقسم الغضب باعتبار الحالة النفسية الظاهرة والباطنةإلى غضب صريح ومكبوت وهو الذي عبر عنه القرآن بالغضب المكظوم، قال تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134]، وبهذاالاعتبار يمكن أن نصير الغضب إلى نوعين هما الغضب الظاهر أو الصريح أو المعلنوالآخر الغضب المكبوت أو المكظوم، ولا شك أن الله تعالى قد امتدح صاحب النوع الثاني، قال ابن كثير: «أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفونعنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل»(15).
أما أسبابه وبواعثه
فهي كثيرة جدا ولا يمكن حصرها، والناس متفاوتون فيها بشكلكبير فمنهم مَن يغضب لأمر تافه لا يُغضب غيره والعكس صحيح ، وإذا أضفنا له ما طرأعلى الناس من أمراض نفسية حديثة ومشاكل عائلية واجتماعية، وضغوط خارجية كثيرة هيأكبر من طاقته بكثير ؛ سيتضح لنا بجلاء أسباب الغضب، إلا أنه من الممكن ذكر بعضأسبابه الرئيسية والعامة والتي يمكن من خلالها حصر بقية الأنواع تحتها وهيكالآتي:
1. العُجب:فالعجب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لميُعقل بالدين وذلك برده ودفعه لأن العجب قرين الكِبْر وملازم له، وبالتالي يكونالعجب من لوازم مسببات الغضب وباعث عليه.
2. المراء والجدل:فالمراء رائدالغضب وسلطان له لمن لم يحكم قبضته على لسانه حال الجدال، وهو أحد أهم أسباب الغضبإن لم يكن سبباً رئيسياً له.
3. المزاح:إن المـزاح بدؤه حلاوة لكن آخـره عـداوة،فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه، إما بكلام لا فائدة منه، أوبفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي – صلىالله عليه وسلم-: "لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادا ولالاعبا"(16).
4. بذاءة اللسان وفحشه: بشتم أو سبأو تعيير مما يوغل الصدور, ويثير الغضب ، وفي الحديث عن أبى الدرداء عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حرم حظه منالرفق فقد حرم حظه من الخير، أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن الخلق وإنالله ليبغض الفاحش البذيء" (17) .
5. ومنأسباب الغضب أيضا: الغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه قال الغزالي -رحمه الله تعالى- « ومن أشد البواعث عليه عند أكثرالجهال: تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكِبر همة»(18).
أمادرجاته فيمكن تقسيمها إلى ثلاث حسب حال الغضبان ومقدماته فقد قسَّمه ابن القيم فيكتابه طلاق الغضبان إلى ثلاثة أقسام، كالآتي:
1. أن يحصل له مبادئ الغضب، بحيث لايتغير عقله، ويعلم ما يقول ويقصده.
2. أن يبلغ الغضب منتهاه، حتى أصبح لايعلم ما يقول ولا ما يريده.
3. أن يتوسط حاله بين هاتين المرتبتين، بحيث لم يَصِرْكالمجنون، كما أنه ليس في كامل عقله(19).
وإلى اللقاء في الجزء الثاني
تحياتي
محمد محمود