كل المجتمعات تحدث فيها تعديات وفروقات فكرية واجتماعية قد تؤدي إلى ما يشبه الحروب، لكنها تستعيد عافيتها، إما من خلال وعي مفكريها وقادتها، أو وضع مصلحة الوطن فوق التناقضات. وحدنا العرب الذين بدأت قيادات التحرر رائعة ومخلصة سواء من وضعت شعار الإسلام ومعه الوطن، أو العروبة ضد التغريب وبسلوك إنساني، لكننا بعد الكفاح والتحرر بدأنا في المواجهات الأصعب مع أنفسنا وهي المعركة التي لن تحسم عندما جعلنا الدين غاية لتنظيمات تفتي بالتحريم والتكفير، وتجعل من الموت جهاداً واستشهاداً، وكأن الانتحار بالوسائل الجديدة خطة عمل تضاد الحياة..
الفلسطينيون نموذج ارتفعت أسهمهم إلى عالم المثل العليا عند كل مواطن عربي وصارت قضيتهم مقدسة لا تحتمل المساومات حتى في ظل اعترافات بإسرائيل وتبادل السفراء معها، غير أن قادتهم عندما امتلكوا بعض أرضهم دخلوا نفس الامتحان في مواجهة الذات حدث الانقسام ثم الاقتتال بين حماس وفتح، وأكثر حالات البؤس أننا لا نعلم كيف أصبحت إسرائيل تراقب كل مسؤول وتصفّيه، وهي عمليات تداخل فيها الشك، لأن هذه القدرة لا يمكن أن تتم بدون طابور داخلي يخدمها، بمعنى أن تنظيف الشارع الفلسطيني من حلف الأعداء يحتاج إلى قيادات على مستوى المسؤولية، لا أن تنشطر بين دول عربية، وإقليمية، ودولية، ومن ثم لا تعلم من صاحب القرار ومن بيده عقد اتفاق سلام فلسطيني - فلسطيني، وهذه المحنة الكبيرة لا يستطيع زعيم دولة أو الجامعة العربية، أو الأمم المتحدة أن توقف شريان الدم النازف بدون توافق داخلي يتحرر من التبعيات المفتوحة.
لبنان ساحة حرب سياسية ومذهبية، وميدان سباق لمن يرغب أن يكون شريكاً في تحريك وسائل الخلافات الداخلية، لأن الإجماع بين الفرقاء مستحيل، ولم يكن غريباً أن تنبت في مسام هذا البلد "فتح الإسلام"، أو غيرها، إذا كانت مصادر التمويل، ووجود الفئات التي لديها الاستعداد بارتهان الوطن لأي مشتر أن تنشئ تنظيماً دموياً يأخذ بمبادئ القاعدة..
في عصر التحرير صار لنا أبطال وشهداء ومناسبات نحتفل بها كأي أمة تجعل من ذكريات بطولاتها امتداداً لكل الأجيال، لكن لماذا لا نجعل الاحتفال بيوم سلام بين العرب يوماً تاريخياً إذا كنا قادرين على فهم أن الإسلام جاء بلا مذاهب، وأن العروبة ليست شوفينية، وأن الحياة في الأديان، وحتى في مفاهيم الإنسان البدائي قيمة بذاتها؟..
لقد اعترفنا أن التضحيات باسم الدفاع عن الوطن أو العقيدة بشروط ما تعارف عليه كل الفقهاء والعلماء المسلمين أمر عظيم، لكنه الآن موت عبثي ينتصر لأفكار زعامات تعيش حالة فقر فكري من خلال نشرها ثقافة العنف وقتل الآخر بمبررات لا تصل إلى حدود عقل متوسط الثقافة، بل إن عداءها لا يمكن فهمه إلا بسياق من يجندونهم ونرى بماذا يفكرون، وما هي مصادر علومهم وثقافتهم، وعند إخضاعهم للمساءلة يكررون ما يقوله قادة الإرهاب من عناوين مفرَّغة من أي مفهوم ديني أو فكري، أو حتى أخلاقي. بيئة الموت وثقافة العنف استوطنت الأقطار العربية، وزحفت كأي وباء تحركه الرياح إلى العالم، والنتيجة أن حساباتنا تتجه للناقص المتكرر..
بقلم / يوسف الكويليت