لو تفكرنا بمنظور اقتصادي وسلكنا المسلك الذي أريد من الصيام، لوجدنا أن الصوم في جزئيته هذه يعالج قضية كبرى من قضايا الإنسانية، ألا وهي الفقر، فكم هي الأمم الفقيرة التي دخلت بفقرها حيز المجاعة، وتداعت لذلك الدول والمنظمات والإعلام بكل وسائله..
(لَعَلّكم تتقون) هكذا ختم الله تعالى آية فرض الصوم، بتعليله الموجب للتقوى، والتقوى كلمة قد أغنتنا كتب التفسير في تبيين مرادها ومعناها ولعلنا هنا لا ننحو المنحى المعتاد في طرح ما قد طُرح، وشرح ما قد شُرح، ولكننا نأخذ بالحديث مسلكًا يلامس واقعًا لا يخلو -بطبيعته البشرية- من إخفاقات على اختلاف مراتبها، ولا يخلو أيضًا من حاجةٍ للإرشاد والإصلاح، وها هي عبادة الصوم تأتي كتدخل رباني مباشر لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق وإصلاح المعاملات، فعبادة الصوم ليست رهبانية خالية من المقاصد الإنسانية، ولا طقوسًا خاوية من المفاهيم الأخلاقية، بل هي من صميم الإنسانية، فإن من أهم أركانها ترك الأكل والشرب يومًا كاملاً من طلوع فجره إلى غروب شمسه.
ولو تفكرنا بمنظور اقتصادي وسلكنا المسلك الذي أريد من الصيام، لوجدنا أن الصوم في جزئيته هذه يعالج قضية كبرى من قضايا الإنسانية، ألا وهي الفقر، فكم هي الأمم الفقيرة التي دخلت بفقرها حيز المجاعة، وتداعت لذلك الدول والمنظمات والإعلام بكل وسائله إلا أن سعيهم وتنظيرهم وتضامنهم لم ولن يبلغ أو يقرب من الصيام في التضامن مع الفقراء والتوفير الاقتصادي الذي يترتب على هذه العبادة إذا ما تأسى فيها المسلمون بنبيهم صلى الله عليه وآله، وتركوا ما يخالف المقصود من هذه العبادة العظيمة، إذ إن التوفير المترتب على الصيام يعد شيئًا كبيرًا في منظور الاقتصاديين، فقد حصل من الصوم المقصود الكبير من مشاركة الفقراء فقرهم، وأيضًا نستطيع إيجاد حل دائم لهذه المشكلة بتنظيم الأمر وتقنينه في بذل ما ادخرناه في نهار رمضان وإعطائه مستحقيه بطرق حضارية خالية من المنّ والأذى، وهذا يفسره فعل رسول الله صلى الله عليه وآله فقد كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان! وهذا هو الموافق تمامًا لمعنى الصوم.
والواقع الذي أحدثه الناس من الصوم نهارًا ثم تعويض صبرهم وتركهم للأكل والشرب بعد ذلك أضعافًا مضاعفة، وإن كان ذلك مباحًا إلا أنها عادة أبعدتنا كثيرًا عن (لعلكم تتقون) فحصول التقوى ليس بمجرد الصيام بعيدًا عن معانيه ومضمونه.
وللقائل أن يقول: مشاركة الفقراء والإحساس بمعاناتهم شيء مطلوب ولكن ليس هو المقصود من الصيام، والجواب أن مقاصد الصوم متعددة، ومعاني الرحمة والإخاء والشفقة بالفقراء لاشك إحداها، ولعل تطهير الصوم من الرفث واللغو وما يعلق به بإطعام الفقراء بزكاة الفطر، يجلي لنا هذا المقصد.
ومن معاني الصوم ما يوجه للإعلام العربي الإسلامي الذي يجد في رمضان مسرحًا واسعًا لعرض كثير من الأباطيل، ما بين أفلام وبرامج ودراما ومسلسلات ربما كانت سببًا من أسباب تفكك النسيج الاجتماعي العربي، وقد نختلف مع بعض الدعاة والعلماء في تعميم المنع وسلوك الشطط في التحذير من بعض القنوات إلا أننا أيضًا نذكر أولئك الذين يستغلون إباحة الشيء في التوسع في استخدامه حتى يدخل بهم مدخل الغفلة والإفساد، نذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وآله: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
وبتأمل الخطاب الرباني في فرض الصوم نجد أنه جاء بعد نداء الإيمان (يا أيها الذين آمنوا) فبالإيمان تكون التقوى من آثار ما يناقضه، ومجيء (لعلكم تتقون) بعد ذلك ينبئ أن فيها معنىً زائدًا على المعنى المتبادر، وهذا هو الواقع، لعلكم تتقون آثار الأخلاق السيئة الموجبة لتفكك المجتمعات وتباعد القلوب، وتتقون الحياة العشوائية التي لا تتقيد بنظام اقتصادي يكفل الحياة الكريمة لفقراء الأمة، ولعلكم تتقون نسيان الجوع، فصيام شهرٍ كاملٍ كفيل برسم صورة سلبية عن الجوع تبقى في ذاكرة الغني تحثه على استدامة العطاء في غير شهر الصوم.
فالمجتمع الذي يصوم كما أمر، كرمًا وتسامحًا وحذرًا من الأخلاق السيئة، وتراحمًا وتعاطفًا، لا شك أنه مجتمع قريب من الله، وحري أيضًا بمسمى الإنسانية. هذا، والله من وراء القصد.
عادل الكلباني
جريدة الرياض