أُعْطِيتُ جوامع الكلم

من مظاهر عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ودلائل نبوته أنه صاحب الحكمة البالغة ،
والكلمة الصادقة ، واللسان المبين ،
وقد فضله الله ـ عز وجل ـ على غيره من الأنبياء
ـ عليهم السلام ـ بأن أعطاه جوامع الكلم،
فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يتكلم بالكلام الموجز ،
القليل اللفظ الكثير المعاني ، وهو ما يسره
الله له من البلاغة والفصاحة ، وبدائع
الحكم ومحاسن العبارات .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
( فُضِّلتُ على الأنبياء بست :
أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ،
وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض
طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة،
وختم بي النبيون )( مسلم ) .
وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
اتصف بصفات لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده ،
فقد كان أفصح الناس ، وأعذبهم
كلاماً ، وأحلاهم منطقا ،
حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع
القلوب ويأسر الأرواح ، يعده العاد ،
ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام
منقطع لا يُدركُه السامع ، بل هديه فيه
أكمل الهدي ، شهد له بذلك كل
من سمعه ، ووصفته أم المؤمنين عائشة
ـ رضي الله عنها ـ بقولها :
( ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يسرد سردكم هذا، ولكن
كان يتكلم بكلام بيِّن فصل، يحفظه
من جلس إليه ) ( الترمذي ).
وهذه الخاصية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ ، جعلت الكثير من فقهاء الإسلام
يختارون من أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم
ـ بعض الأحاديث القليلة التي لو أضيفت بعضها إلى بعض فإنها تعبر عن الإسلام بكامله . ومن أمثلة ذلك ما فعله الإمام أحمد بن حنبل حين قال : "
أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : ( إنما الأعمال بالنيات )( البخاري ) ، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ :
( من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس فيه، فَهُوَ رَد )
( البخاري )، وحديث النعمان بن بشير ـ
رضي الله عنه ـ :
( الحلال بَيِّنٌ والحرام بين )( البخاري )" .
وجوامع الكلم التي خُص بها النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ على نوعين كما
ذكر ذلك ابن رجب الحنبلي فقال:
" أحدهما : ما هو في القرآن كقوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ}(النحل:90)
ومن بلاغته وفصاحته وجوامع كلمه ـ
صلى الله عليه وسلم ـ ما قاله من الكلم
الذي لم يُسْبق إليه ، ولا قاله أحد قبله ،
كقوله: ( لا يلدغ المؤمن من جُحْر مرتين )
( البخاري ) ،
( حمي الوطيس ) ( أحمد ) ..
قال جابر ـ رضي الله عنه ـ:
" والله إنها كلمة ما سمعتها من أحد
من العرب قبله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" . وحمي الوطيس أي اشتدت الحرب ..
إن بلاغة وفصاحة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم
ـ وجوامع كلامه ، لا عجب فيها ولا غرابة
إذ خصه الله ـ عز وجل ـ بالعناية ، وفضله
على سائر خلقه ، وهيأه للوحي ،
وحمله البلاغ والبيان ، ففصاحة لسانه
ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية لا يُدْرك مداها
، ومنزلة لا يدانى منتهاها ،
فهو أفصح خلق الله إذا تكلم ،
كلامه كله يثمر علما ، ويمتثل شرعا
وحكما ، ولا يتكلم بَشَر بكلام
أحكم منه في مقالته ، وحري
بمن عبر عن مراد الله بلسانه ، وأقام الحجة
على عباده ببيانه ، وبين مواضع فروضه ،
وأوامره ونواهيه ، أن يكون أحكم
الخلق بيانا ، وأفصحهم لسانا ..
ومن ثم كانت أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم
ـ في ذاتها قواعد كلية جاهزة
أو قابلة لأن تصاغ منها القواعد
والأصول الفقهيّة ..
وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته وبلاغته
ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شاهد ،
ولا ينكرها موافق ولا معاند ،
وكيف لا يكون كذلك
وهو خاتم النبيين ، وسيد المرسلين،
وعلى قلبه نزل القرآن العظيم ،
وقد زكَّى الله تعالى قوله ونطقه فقال :
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم 4:3)
وقال سبحانه :
{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
(الشعراء 193: 195) ..
فأوتي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا ،
وجمع الله له المعاني الكثيرة
في ألفاظ قليلة يسيرة ، ليسهل حفظها
وتبليغها ، وجعل ذلك من أدلة نبوته ،
وأعلام رسالته ، وكل هذا من الحفظ
الذي تكفل الله به لهذا الدين .