لم تكن الجدلية المذهبية بين المسلمين عبر التاريخ أسوأ وأخطر مما هي عليه الآن وفي هذه المرحلة، فقتل الناس وهم يصلون مهما كان دينهم أو مذهبهم في مكان وزمان يفترض أن لهما قيمة روحية عالية لدى أي إنسان، فضلا عمن يتبعون أحد أطراف المعادلة المذهبية في هذا الدين أو ذاك، يتجاوز الإنسانية وليس الدين فحسب ويكشف عمق أزمة دينية حقيقية، وهو تعبير صارخ عن تجذر تلك الأزمة المتجددة في الوعي.
وسواء كانت هذه الجدلية المذهبية بين المسلمين مصطنعة عن طريق المؤامرات الخارجية والمستشرقين والاستعمار والهيمنة والاحتلال أو كانت منتجا ذاتيا يعكس انسداد الأفق المعرفي الفقهي الإسلامي، وعدم القدرة على التعايش مع العصر، لكن الأكيد أن منتجا جديدا من التوحش تمت ولادته في البيئة التي أفرزت هذه الجدلية المذهبية وسط مجتمعاتنا بكميات ونوعيات لم يسبق لها مثيل في التاريخ والجغرافيا البشرية.
إنما هي العصبيات المتجذرة في النفوس والتي يتم تغليفها بالدين والمذهبية والطائفية، فلا يمكن أن تصمد وتستمر الطائفية والمذهبية أمام هذه الوحشية، لولا أنها تمد جذورها في وحل العصبيات. والدليل هو سهولة الانقسامات التي تنشأ بين تلك الجماعات لأسباب إما قبائلية أو عرقية.
فكل القوى المتصارعة في المنطقة، تتصارع تحت شعارات المذهبية، لكن حقيقة الصراعات تختلف حسب أهداف وغايات تلك القوى.
فمنهم من يحارب بشعار المذهبية والطائفية ليجد قوت يومه من المرتزقة والعاطلين، ومنهم من يحارب تحت شعار المذهبية والطائفية لتقسيم البلاد العربية إلى دويلات على أساس عرقي، ومنهم من يحارب بشعار المذهبية والطائفية ليصل هو إلى السلطة، ومنهم من يغذي الصراعات تحت شعار المذهبية والطائفية ليتم التخلص من الفائض السكاني الذي أثقل الكرة الأرضية وشح الموارد. ومنهم من يحارب تحت شعار المذهبية والطائفية ليبيع السلاح ويشغل عشرات مصانع السلاح والذخيرة وغيرها في بلاده، ومنهم من يحارب تحت شعار المذهبية والطائفية طمعا بما فوق الأرض أو بما تحتها، ومنهم من يشعل الصراعات تحت شعار الطائفية والمذهبية بغية تدمير البلاد العربية ومنافستها القادمة، ليبقى هو الأقوى والأكثر تقدما سنوات قادمة تعادل السنوات التي تم بها إعادة الدول العربية للوراء.
فهل المذهبية والطائفية تحتمل كل هذه الأهداف؟ ولماذا وقع الاختيار على الطائفية والمذهبية لتكون أيقونة لكل هذه الغايات؟
إنه من الصعب أن يتخيل الإنسان بأن يكون الدين سببا بخروج الإنسان من دائرة الإنسانية إلى دائرة التوحش. ومن الأصعب أن يتخيل الإنسان بأن يكون التاريخ ببعض محطاته مرجعا لصراعات القرن الواحد والعشرين. ومن الأكثر صعوبة أن يتخيل الإنسان أن تكون دور العبادة مسرحا للجريمة وإزهاق الأنفس البريئة، ومن الصعب أكثر وأكثر أن يتم تدمير المدن الأثرية والحضارات البشرية باسم الدين.
هل سيكون للعرب مستقبل بعد هذه الفتنة الكبرى التي عصفت بالدول والمجتمعات العربية؟ وهل سيتغير تفكيرنا ووعينا بعد أن تتوقف الطائرات والمفخخات والمتفجرات وتسكت المدافع والرشاشات؟
إن العصبيات لا تصنع أمة، إنما تصنع الأمم المواطنة القائمة على ثقافة حقوق الإنسان وكرامته وعلى مبدأ العدالة والمساواة، عندئذٍ، فقط يملك العرب حاضرهم ومستقبلهم ولا يرتهنون لتاريخهم ومستقبل غيرهم.
عبد اللطيف الضويحي
عكاظ