الأحد 19, سبتمبر 2010
عبد اللطيف بن بريك الثبيتي
تطبق فكرة مسافة الأمان في كثير من الأنظمة ، فنظام المرور على سبيل المثال يلزم السائق بمسافة أمان بينه و بين السيارة التي أمامه .
و أنظمة البلديات تفرض مسافة أمان بين المساكن و أبراج الضغط العالي .
وكثير من الدول تلتزم مع جاراتها بابتعاد الجيوش مسافة معينة عن الحدود .
و لا تكاد تجد منشأة إلا و قد أخذت بهذه الفكرة أو هذا المبدأ .
و في الحقيقة أن فكرة مسافة الأمان هي تطبيق لمفهوم أعم وأعمق هو الحزم في الرأي ، مبدأ ما استصحبه أحد فندم ، و لا أهمله أحد فسلمت مقاتله ؛ و لذلك حمده كل من جربه .
رأيت احتساب الأمر قبل وقوعه ** حمى مُقلتيَّ أن يطول بكاهما
هذا المبدأ جاءت الإشارة إليه في كثير من الأحاديث :
"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه ، و من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ".
"دع ما يريبك إلى مالا يريبك ".
" أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما ..."
و قاعدة " سد الذرائع " تنسجم بشكل كامل معه.
و قد طبقه الرسول صلى الله عليه و سلم فعلياً في كثير من الأمور ، منها وضعه للرماة على الجبل في معركة أحد تحسباً لما قد يقوم به خيالة قريش من التفاف على الجيش .
تجده حاضراً في كلام كثير من الحكماء : " الحزم سوء الظن " ، " أحكم ما تخشاه و الأمر ممكن " ، " الحزم في الأمور أولى من الغرور" .
لكننا مع كل ذلك نرى الكثيرين لا يعيرونه ما يستحق !
مجال تطبيق فكرة مسافة الأمان واسع جداً في حياتنا ، فعلى سبيل المثال :بدلاً من أن تضبط المنبه على الوقت لإيقاظك لصلاة الفجر ، اجعل هناك فترة أمان سابقة بخمس دقائق .
بدلا من أن تكون قرب عملك عند السابعة كن قبلها بعشر دقائق.
بدلا من أن يبدأ الطالب مراجعة دروسه قبل الاختبار بأسبوعين ليضع فترة أمان أسبوعا ثالثاً ، و بذلك يضمن لو حدث طارئ أن يتم معالجته في فترة الأمان .
بدلاً من أن تورط نفسك في زحام مجنون لشراء حاجيات رمضان يوم 29 شعبان ، وفرها قبل ذلك بأسبوع .
و إذا تجاوزنا فكرة مسافة الأمان إلى المبدأ الذي نبعت منه ، و هو الحزم فإن تطبيقاته تكاد تتصل بكل نواحي حياتنا ، فمن الحزم مثلا أن تجعل بينك و بين مواضع الشُبه و سوء الظن مسافة أمان ، و " من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن إلا نفسه ".
و من الحزم أن لا تعد أحداً بشيء قد لا يناسبك الوفاء به ، بل تجعل الأمر مفتوحاً ليكون الخيار لك .
عندما تتكلم في أي موضوع ، هناك من ينظر في كلامك و يقيِّمه ، و ربما يبحث عن عيب فيه ، فمن الحزم أن تزن كلامك قبل أن يزنه غيرك ، فشتان بين الحالين .
إذا قُلت قَدِّر أن قولك عُرضَةً ** لِبادِرَةٍ أو حُجَّةٍ لمخاصِمِ
و إنَّ امرأً لم يَخْشَ قبل كلامه ** الجوابَ فَيَنْهى نفسَهُ غيرَ حازِمِ
في نقد الآخرين أو عتابهم ، لا تعجل على أحد بلوم حتى تتأكد أنه لا عذر له ، لأنك إن فعلت دون تثبت انقلب لومك لوماً عليك .
تأن و لا تعجل بلومكَ صاحباً ** لعلَّ له عذراً و أنتَ تلومُ .
استعن بالكتمان في جميع شؤون حياتك ؛ فلو لم يعلم الناس أن في المحار لؤلؤاً ما كُسر ، و على سبيل المثال ينبغي للمرء أن يعتني بمظهره و ما يمكن أن يدل عليه ؛ فحمله حقيبة من تلك التي توضع فيها النقود أثناء سفره قد يعرضه للاعتداء أو السرقة ، و خروجه من مصرف و هو يحمل ظرفاً منتفخاً يعني أنه يدعو اللصوص لسرقته !
فليتعلم شيئاً من فنون التمويه ، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج .
عندما تعلق آمالاً عريضة على أمر ما ، الحصول على وظيفة جديدة ، ترقية ، أو أي أمر آخر ، ضع مسافة أمان نفسية تخفف من تلك الآمال و تفترض عدم حصولها ؛ حتى لا تصاب بالإحباط عندما لا يتحقق الأمل .
بعض الناس إذا أُعجب باتجاه ما ، اندفع فيه بقوة ، فيحد ذلك من قدرته على التراجع أو التصحيح فيما بعد .
و الحزم يقضي بأن يأخذ الأمر على خطوات ؛ ليستفيد في كل خطوة من تجربته في التي قبلها ، و ليكون الباب أمامه مفتوحاً لتدارك الموقف لو جد جديد ، أو اكتشف أنه على خطأ .
في الحوارات المختلفة تجد المحاور المتمرس يتجنب الألفاظ القطعية و يستخدم كلمات من قبيل " بعض ، أعتقد ، من أفضل .. الخ ، بينما تجد الغر يتورط في الجزم بما يصعب إثباته فيسهل على الآخرين اصطياده .
و من ذلك ما فعله كاتبٌ مشهور حين أنكر بإطلاق أن يكون هناك سعودي يصف نفسه بالعلمانية !
فلم يتكلف محاوره لإسقاط دعواه أكثر من ذكر مثالٍ واحد لسعودي يصف نفسه بأنه علماني ، ثم أهداه نصيحة بأن يترك الباب موارباً في المرات القادمة حتى يستطيع الهرب .
عليك بأوساط الأمور فإنها ** نجاةٌ و لا تركب ذلولاً و لا صعباً
عندما تهم بأمر ما ، قم بجمع المعلومات و دراسة كل شيء له علاقة به قبل أن تضعه موضع التنفيذ ، و تذكر أن النجار الجيد يقيس مرتين و يقطع مرة واحدة .
و في الجملة و من واقع تجارب :
لا تتوقف عند آخر حد من الصواب و أول حد من الخطأ .. تكون بذلك كمن ينام على حافة هاوية ، أي حركة غير محسوبة تجعله يسقط .
يجب أن تضع مسافة أمان بين الصواب الذي مازلت فيه و بين أول حدود الخطأ ، بذلك تحمي نفسك من الوقوع في الخطأ عندما تخفق في تقدير خطوة ما ، أو تحديد اتجاه ما ، لأن أي خطوة مفاجئة في الاتجاه غير الصحيح يمكن تداركها كونها وقعت في مسافة الأمان ، بينما لو كنت على الحد المباشر للخطأ فإن خطوة غير محسوبة ستوقعك فيه حتماً .
أخيراً .. تذكر أن الحزم في الرأي هو طوق نجاة في بحر الحياة المتلاطم ، و ليس عاقلا من يركب البحر دون طوق نجاة .
عبد اللطيف بن بريك الثبيتي
[email protected]